د. خضير المرشدي
في عالم تتشابك فيه المصالح السياسية والاقتصادية مع التكنولوجيا والإعلام الحديث، تبرز قضية (الأقليات) كنغمة يعزف عليها الغرب ، وأمريكا تحديداً، بمهارة فائقة، لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة الامد . هذه النغمة، التي تُسوَّق تحت شعارات براقة كالحقوق والحريات، غالباً ما تتحول إلى أداة للضغط السياسي، ومبرر للتدخل، ووسيلة لزرع بذور الفتنة في المجتمعات المتنوعة، مهددة بذلك السلم الأهلي والوحدة الوطنية . لكن، هل هي فعلًا دعوة إنسانية مشروعة لرد المظالم، أم مجرد أداة تآمرية تُستخدم لتقويض الدول واستقرارها؟ في سياق الوطن العربي، حيث تتعدد الأديان والقوميات والثقافات، كان التنوع تأريخياً ركيزة أساسية للتعايش والتكامل الاجتماعي . من الأمازيغ في المغرب العربي إلى الأكراد والعلويين والدروز في سوريا، والأقباط في مصر، والأكراد والتركمان والشيعة والاشوريين وغيرهم في العراق ، والشيعة في الخليج العربي وفي اليمن، شكّل هذا التنوع مصدر قوة حضارية، عززتها أنظمة وطنية سعت لتحقيق العدالة والمساواة. لكن هذا الإرث الغني أصبح اليوم عرضة للاستغلال، حيث تحول من ميزة إلى نقطة ضعف عندما بدأت قوى خارجية تسيّس قضايا الأقليات لخدمة أجنداتها . والتحدي يكمن في نقطة فاصلة وهي عندما تتحول مطالب حقوقية مشروعة إلى أدوات للتقسيم والهيمنة. فالغرب، بقيادة الولايات المتحدة، لطالما رفع شعار (حماية الأقليات) كجزء من سياسته الخارجية، لكن التاريخ الحديث يكشف أن هذا الشعار غالباً ما يكون قناعاً لأهداف أخرى: من الاحتلال وتأمين المصالح الاقتصادية إلى زعزعة استقرار الدول المتمردة على الهيمنة الخارجية.
لعل أبرز الأمثلة على هذا النهج هو ما شهده العراق. قبل الغزو عام 2003، حين تصاعدت الدعاية الأمريكية حول اضطهاد الأقليات - كالأكراد والشيعة وغيرهم - لتبرير التدخل العسكري؟ لكن الحقيقة ليست كذلك كما هو معلوم ولم تكن حماية لهذه الفئات، بل تحويل العراق إلى دولة فاشلة منهوبة وممزقة تحت هيمنة اجنبية طويلة الأمد، وساحة صراع طائفي وعرقي وعشائري، وبدلاً من حل الانقسامات، تم تعميقها، وأصبح السلم الأهلي ذكرى بعيدة وعملية الخلاص كابوس مزعج . في سوريا، استُخدمت قضية الأقليات - كالأكراد والعلويين والدروز - لدعم جماعات انفصالية تحت شعار (الحماية)، بتمويل وتسليح من قوى غربية وإقليمية. النتيجة كانت إطالة أمد الحرب، وتعزيز التوترات بين مكونات الشعب السوري، وتهديد وحدة البلاد. وفي لبنان، بتركيبته الطائفية الفريدة، استُغل التنوع خلال الحرب الأهلية (1975-1990) لدعم أطراف معينة، مما أدى إلى تمزيق النسيج الوطني، ولا يزال هذا الإرث يُستخدم للضغط على البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً . تعود جذور هذه الاستراتيجية التي تستثمر في حقوق الاقليات وتأجيج نزعات عدوانية لدى مجاميع طامحة للزعامة من ابنائها إلى حقبة الاستعمار الأوروبي. ففي المغرب العربي مثلاً، عززت فرنسا الانقسامات بين العرب والأمازيغ، مبرزة الفوارق الثقافية لإضعاف المقاومة الوطنية ضد احتلالها للمغرب. وفي المشرق، وضعت اتفاقية سايكس - بيكو (1916) الأسس لتقطيع الأوصال الاجتماعية والجغرافية للأمة العربية، مع تضخيم الفروقات بين الطوائف والقوميات والأعراق. هذا الإرث لم ينته بانتهاء الاستعمار المباشر، بل تطور مع بروز الولايات المتحدة التي ورثت هذا النهج، مضيفة إليه أدوات حديثة كالإعلام والمال ومنظمات حقوق الإنسان وطورت من أهداف هذه الاستراتيجية وجعلت ممن يمثلون هذه الاقليات ادوات تآمر وتخريب في الدول التي ينتمون إليها.
فلماذا الأقليات تحديدًا؟؟
الجواب :
هو لأن التنوع العربي، الذي كان مصدر قوة في الماضي، يمكن أن يُحوَّل إلى نقطة ضعف عند تسييسه، وما اسهل ان يتحقق ذلك في الفضاء العربي. اضافة الى ان الغرب يدرك أن الأمة العربية، إذا ما توحدت، فإنها تمتلك القدرة على مواجهة الهيمنة بفضل موقعها الجيوسياسي وثرواتها المتنوعة. لذا، يتم تضخيم قضايا الأقليات لخلق شعور بالغربة بين مكونات المجتمع، وتبرير التدخل تحت شعارات إنسانية . وراء هذه النغمة تكمن مصالح اقتصادية وسياسية واضحة. في كل من العراق وسوريا، حيث تزامن التركيز على الأقليات مع السيطرة على حقول النفط . وفي السودان، كان انفصال الجنوب مدفوعاً بالموارد، مع تغليف ذلك بشعار حماية الأقليات المسيحية. هذه الأمثلة تكشف أن (حماية الأقليات) غالباً ما تكون قناعاً لتأمين المصالح الاستراتيجية . فكرياً، تستند هذه الاستراتيجية إلى رؤية استشراقية تصور الشرق كمجتمع متخلف غير قادر على إدارة تنوعه، مما يجعل الغرب (المنقذ) الطبيعي لهذا النزاع المفتعل . لكن هذه الرؤية تتجاهل التأريخ الطويل للتعايش الناجح في العالم العربي قبل الاستعمار، وتُحوّل التنوع من ثروة ومصدر للقوة إلى أداة للضعف والتقسيم . الحل يكمن في إن مواجهة هذه النغمة التي تُطرب الغرب واتباعهم ممن يتصدرون قيادة المشهد على حساب مصالح ودماء أبناء هذه الفئات الذين لايعنيهم سوى العيش بكرامة وأمان في ظل دولتهم الوطنية .. هو صوغ استراتيجية مزدوجة، تقوم أولاً، على استعادة سردية وطنية عبر تعزيز هوية وإرادة مشتركة تجمع بين مكونات المجتمع ، كما فعل المغرب بدمج الأمازيغ في نسيجه الوطني . وثانياً، بناء أنظمة عادلة تحمي حقوق الجميع بإرادة داخلية بعيداً عن التدخل الأجنبي. والأهم، تعزيز الوعي الشعبي بدور هذه النغمة الشاذة كأداة تآمر وتخريب، يبقى هو السلاح الأقوى لإفشالها . ختاماً إن نغمة الأقليات ليست دعوة للعدالة كما يدعي الغرب، بقدر ما هي أداة تأريخية للهيمنة ، تتكيف مع أدوات العصر الحديث. من دول المغرب العربي إلى دول المشرق والخليج العربي وبالعكس، يظل التحدي هو تحويل التنوع إلى درع ضد التآمر، وعبر وحدة وطنية صلبة تحكمها قوانين صارمة وعدالة حقيقية تضمن الحقوق للجميع وتحدد الواجبات بالتساوي . ففي عالم لا يرحم، يبقى السلم الأهلي والسيادة الوطنية والعيش الامن الحر المشترك، عماد البقاء.
إرسال تعليق